"وداعاً أيتها الحياة التي أعرفها…فأنا مسافر إلى المجهول"
الأحد: كنت غارقاً حتى النخاع في قصة العلم وماهِيَّته، وكيفية خَلق الكون منذ الانفجار العظيم وحتى نظرية التطور. منذ يومين، كنت أتحدث مع أبي الروحي عن كل ما اكتشفته، فوجدته يسألني: "يبدو أنك تعلم الآن الكثير عن "كيف" خلق الكون، ألا تريد أن تفهم "لماذا" خلق؟؟؟". أعطاني كتاباً من 640 صفحة اسمه "قصة الفلسفة"، سألته عن معنى الفلسفة…قال:"الفلسفة هي ما وراء الأشياء"، والفيلسوف هو "محب الحكمة"…ولم أفهم أنا أي شيء
الاثنين: يقول الكتاب أن الفلسفة بدأت في أثينا، حيث التقت مئات الثقافات القادمة من كل مكان بالعالم القديم، وأتى كل منهم بعقيدته الخاصة. عندما تُقدم لنا ألف عقيدة، يساورنا الشك في جميع هذه العقائد. وهذا هو بالضبط ما حدث، حيث بدأ الناس يشكون في كل شيء إلى المدى الذي قال فيه شخص اسمه ديمقرطيس إنه: "لا يوجد أي شيء في الحقيقة سوى الذرات والفراغ"!! لكن الفلسفة الحقيقية -أياً كان معنى ذلك- بدأت بسقراط، الحكيم الذي لم يعط العالم أي إجابات، لكنه منحه أهم ما في الفلسفة: "الأسئلة". يؤكد سقراط لتلاميذه: "أنا لا أعرف إلا شيئاً واحداً، هو أنني لا أعرف شيئاً"، ويتبارى مع الفلاسفة الأخرين: "قد يكون من المفيد أن تحاولون تفسير الكون، لكني أدعوكم لما هو أعظم؛ أن تعرفوا أنفسكم أولاً".
صدمتني هذه الجملة في الصميم، فأنا ركزت كل جهودي حتى الآن على العلم، مفترضاً أنني سأجد كل الإجابات في كتب الفيزياء والكيمياء، والآن عرفت السؤال الوحيد الذي لا إجابة له فيها: "من أنا؟؟". عرفت أيضاً أنني لن أدرك الحقيقة، إلا إذا أدركت حقيقتي.
الثلاثاء: عرفت أن أفلاطون كان تلميذاً لسقراط، وأرسطو كان تلميذ أفلاطون…ليت المعرفة تنتقل بهذه الطريقة في المدرسة!! بعد أن حكم على سقراط بالموت، لأنه رفض وجود الآلهة، أخذ أفلاطون على نفسه أن يخترع مدينة فاضلة، لا يموت فيها فيلسوف لأجل أفكاره. ناقش أفلاطون كل قضية يمكن أن تخطر لإنسان. وربط بين كل القضايا، بدئاً بالأخلاق مروراً بالسياسة وانتهاءً بعلم النفس. واكتشف أخيراً أن هدف الفلسفة، الذي هو أيضاً هدف الحياة، هو التوافق، الهارموني، التي تضع كل شيء وكل شخص في موضعه بعدل وحساب، والتي تربط بين كل الأشياء بسلاسة وصدق. الفلسفة تجعل "الكل" "واحداً"
أما أنا، فمدينتي الفاضلة ينبغي أن تكون مليئة بالحب، غير أنني لا أتوقع فيها، مثل أفلاطون، أن تكون الحياة مثالية لا مشاكل فيها ولا ألم، بل أتخيلها أقرب ما يكون إلى حياتي الحالية، بإضافة الكثير من الحب، والقليل من الفلسفة. ثم أن أفلاطون كان يريد أن يبدأ التعليم من المهد وحتى سن الخمسين !!!!!!!
الأربعاء: سيصيبني الجنون حتماً قبل أن أنهي هذا الكتاب. لقد كان أرسطو معلم الإسكندر، ويقال أن الإسكندر مَنَحُه ما يعادل اليوم 10 مليون دولار، فماذا فعل بها؟ أرسل عمال في كل أنحاء العالم ليجمعوا له من كل أصناف الحيوانات والنباتات، ليؤسس بها أول حديقة بيولوجية في التاريخ!!! اخترع أرسطو المنطق، وهو للفلسفة مثل الرياضة بالنسبة للفيزياء. وأخذ عن أستاذ أستاذه حبه للأسئلة، فكان أساس منطقه هو "قبل أن تتحدث معي، عرف ما تقول"، فإذا أخبرته أنك إنسان، فعليك أن تعرف أن الإنسان -في تعريف أرسطو- حيوان عاقل. وإذا كنت أنت سقراط، وسقراط إنسان، إذن فسقراط حيوان عاقل…هذا هو المنطق !!!
قضيت اليوم كله ألعب هذه اللعبة مع زملائي وأمي وجدي…"يا جدو، عرف من فضلك ما تقول، هل ارتداء النظارة صفة من صفات الحيوان العاقل؟؟". لكن ما فَتَّني حقاً في أرسطو هو حديثه عن الله: " كل شيء في الدنيا هو صورة نشأت عن شيء كان مادة لها، ومادة لصورة أكبر تنشأ عنه: الرجل هو الصورة التي كان الطفل مادة لها، والطفل هو الصورة التي كان الجنين مادة لها، وهكذا…المادة هي إمكانية الصورة، والصورة هي الحقيقة التامة للمادة. وهذه الحركة يقف وراءها الله، المحرك الأكبر، لا يتحرك بل هو كائن، معنوي ولا مكان له، لا مذكر ولا مؤنث، لا يتغير ولا يتأثر، تام وأبدي. إن الله يحرك العالم كما يحرك المحبوب المحب، إنه السبب النهائي للطبيعة، والقوة الدافعة للأشياء وهدفها، إنه صورة العالم، ومبدأ حياته"
الخميس: عجيب أن تصل البشرية لمثل هذا الرقي، ثم تتوقف تماماً عن الفلسفة لمدة 18 قرناً كاملة. ملأت فيهم الأرض الصراعات التي شهدت مجيء المسيح، ثم انتشار الإسلام. وامتلأت فيهم العقول بأفكار مسلم بها لا جدال فيها. حتى قام رجل بريطاني مبجل اسمه فرنسيس بيكون، وأهم ما فعله هذا الرجل، هو أنه هز العقول من ثباتها، مؤكداً أن نصف ما نحن متأكدين منه هو غير حقيقي على الإطلاق. إن أفكارنا عن الأشياء ما هي إلا صور لأنفسنا أكثر منها حقيقة الأشياء. (تذكرت أنا طبعاً أن هذا الوقت السعيد هو نفسه الذي كان يتم فيه تكفير من يقول أن الأرض ليست مركز الكون). لقد بدأ بيكون الزلزال الذي سيستمر ويتوحش من بعده ليحطم كل المسلمات. فيجيء بعده بنحو قرن، رجل يهودي طرد من المجمع بسبب فلسفته، اسمه سبينوزا، لقد أنكر سبينوزا على الناس كثرة أحاديثهم عن المعجزات الخارقة، فكتب يؤكد "إن قوانين الطبيعة العامة وإرادة الله الخالدة هي شيء واحد، إن كل ما يحدث في العالم لا يخضع لنزوات حاكم مطلق كالملوك الأرضيين، وليست الحياة شراً والله خيراً، بل الحقيقة كما علمها الله لأيوب هي أن الله هو فوق خيرنا وشرنا وأن الخير والشر نسبيان وفي الغالب يعودان إلى أذواق البشر وغاياتهم"
بعدها بنحو قرن تقريباً قال فولتير: "إن الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، فردها له الإنسان بالمثل"
أصابني الخوف من هذه الفلسفة، أحببت ما قرأت، لكنه يخيفني…يدفعني أن أفكر كثيراً جداً وأن أشك في الكثير من الأشياء…كتبت أربع ورقات مليئة بالأسئلة وقدمتها إلى الرب في صلاة طويلة قبل النوم.
الجمعة: الأجازة كالعادة، يوم سعيد…تحدثت مع أبي قليلاً وأخبرني أن الفلسفة هي شيء خطر في الكثير من الأحيان. إن فيلسوفاً اسمه روسو قد دعا إلى الثورة على المدنية، فكانت مذابح الثورة الفرنسية…وآخر اسمه نيتشة قد طالب بسيادة قانون الغاب (حق الأقوى)، فقامت وراء أفكاره الحرب العالمية الثانية. عزفت أنا على القراءة وحاولت أن أتوقف حتى عن التفكير فلم أنجح. إلى أين يأخذني هذا العقل؟ وهل هناك نهاية لهذه التساؤلات؟ وهل هناك حقيقة؟؟ أم أن الحقيقة هي مجرد "ذرات وفراغ"؟؟ ارحمني يا رب.
السبت: تشجعت قليلاً للقراءة اليوم، وكان ذلك أفضل ما فعلت، فبعد هذا العصر المضطرب المليء بالثورة العقلية، جاء رجل قصير بثورة عكسية تماماً: ثورة على العقل. يقول عمانويل كانط في كتابه ذو الثمانمائة صفحة "نقد العقل الخالص": إننا لا يمكن أن نصل لحقيقة الكون باستخدام عقولنا فقط، فحتى هذه العقول هي جزء من هذه الحقيقة، فإذا حاولنا مثلاً فهم الكون بالرياضيات فعلينا أن ندرك أن (1+1=2) هي حقيقة خاصة بعقولنا فقط، وكذلك معنى الزمان ومعنى المكان…فلا جدوى إذن من أن نحاول تفسير الله بالفلسفة، لأن الله هو خارج الزمان والمكان معاً. إن فهم الله هو بالأحرى عمل إيماني أكثر منه عقلي.
فهمت الآن أخيراً الجملة التي قالها لي أبي الروحي: "إن قليل من الفلسفة قد يجنح بك إلى الإلحاد، ولكن الكثير منها سيعود بك إلى إيمان أعمق كثيراً"
تصبحي على خير يا مذكراتي العزيزة
مراهق مصري