كنت أستعد أن أعود إلي الكتابة في المواضيع التي أجلتها بسبب الحدث السعيد الذي ملأ حياتنا في الأيام الماضية، وعندي من هذه المواضيع نحو عشرة في انتظار توفر الوقت...ثم حدث ما حدث في شرم الشيخ. وصحيح أن ما حدث لم يكن "مفاجأة" بالمعنى المعروف، وصحيح أنه لا يأتي بألوانٍ أو أشكالٍ جديدة على المشهد العالمي، إلا أن الحزن في القلب والغضب في الإرادة لا يتركان مكاناً لأي شيء آخر...وعلى ذلك، فليكن عن الإرهاب الحديث.
***
المشهد الأول:
الخميس مساءً، سهران في العمل، وحوار سريع مع مديري عن تفجيرات لندن الأخيرة... كان يتساءل: "إذا كان هؤلاء يفعلون كل ذلك وقد جُردوا من البلد التي كانوا يتدربون فيها، والأموال التي كانت تأتيهم بلا حساب، وانقلب عليهم الغرب الذي كان يحميهم، وتبرت منهم بلاد العرب التي كانت تمنحهم الموارد البشرية... وهم مع ذلك لازالوا قادرين على الإيذاء... إذن ما الذي كان سيحدث لو تُركوا طوال هذه السنوات، أكنا سننتظر حتى نراهم يحكمون كل الوطن الإسلامي والعربي؟؟؟". وجملة عابرة لم أدرك أنها ستكون ذا مغزى مختلف بعد ساعات: "لا يمكن منع العمليات قبل حدوثها".
***
المشهد الثاني:
الجمعة صباحاًً، ألمح في بيت أحد الأصدقاء كتاب "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، وكنت قد قرأته منذ شهور. أتناوله بفضول عاش معي على مر السنوات، وصرت لا أقدر أن ألمح كتاباً إلا وأشرع في قراءته. أفتح - بلا قصد - خطبة الشيخ عن "الجهاد" و"حرب الكفار"، ومشهد تجنيد الطالب طه في الجماعات الإسلامية، ليصير بعد فصول من التدريب أحد كوادر الإرهابيين ذوي القناعة العميقة بأن ما يفعلونه هو لوجه الله ورفعة الإسلام.
***
المشهد الثالث:
الجمعة مساءً، ذهبت لأقوم بعمل تحليل الغدة الدرقية لأميرتي الصغيرة، وهو تحليل يتم في الأيام السبعة الأولى بعد الولادة، باستخدام جهاز صغير يشكها شكة صغيرة في كعب القدم، ولا يفترض أن يسبب أي ألم. فاجأنا الرجل في معمل التحاليل بنظرة لا تخلو من طمع، وأصر أن هذا التحليل لا وسيلة له إلا أن يحقن الصبية في الوريد ويسحب ما لا يقل من ثلاثة سنتيمترات مكعبة من دمها !!!!!!!!!!!! كان يتحدث عن سحب الدم بشراهة، يقول "عايزين دم كتير"، كأنه سيستخدم هذا الدم في وجبة شهية. شعرت بعدم القدرة على التنفس، وبأن هذا السفاح يجد متعةً ما في وصف نوع من الألم لا تحتمله صغيرتي. تحديت ما يقول وكذبته، لأكتشف في زلة لسان منه أنه يعلم جيداً أن التحليل يمكن عمله بالشك، ولكنه لا يمتلك الجهاز أو لا يعلم كيف يستخدمه، ولا يريد أن "يخسرني" كزبون. حملتها وانطلقت خارجاً من المعمل وأنا أشعر أني أهرب بها من أولى معاركها مع الظلم والإهمال والفساد في هذا العالم. ركبت السيارة وأنا لا أتماسك نفسي من الغضب والكراهية...عمرها خمسة أيام وبالفعل صار دمها تجارة!!!
***
المشهد الرابع:
سمعت أخبار شرم الشيخ في الثانية صباحاً، وكنت أحتفل مع الأصدقاء بخطوبة أحدهم. رجعت إلى البيت مسرعاً لأشاهد الأخبار، كنت متعباً ونمت أمام التلفزيون، وحلمت...حلمت بالرجل من المعمل، ورأيت وجهه يتحول إلى شيء أشبه بخليط عجيب من أيمن الظواهري والخوميني والإسلامبولي وآخرين ممن ترتبط وجوههم في عقلي بقسوة الإرهاب. تضخم هذا الوجه المسخ حتى ملأ شاشة الحلم. ثم رأيته يمسك بطفلتي، ويقول: "عايزين دمها، حناخد دم كتير، هاهاهاهاها"...
استيقظت وأخذت أبحث بين القنوات عن شيء ينسيني هذا الحلم المشئوم، لكن كل ما أشاهده هو دمار وألم ودموع أشخاص لا ذنب لهم ولا حول لهم في هذا الموقف العصيب. جاءتني مكالمة من أهلي تخبرني أن إبنة خالتي كانت في فندق غزالة لحظة الإنفجار، وبأنها بخير والحمدلله. صار الحدث قريباً جداً، هؤلاء الأوغاد يحاولون قتل كل من أحب!!!
***
المشهد الخامس:
السبت صباحاً، نشرت سقراط - الفيلسوفة التي صارت صديقة في سبعة أيام - على قهوتها تأملات شعرية عن شرم الشيخ ولندن واليمن وكل مكان. عنوان القصيدة "تعالِ أيتها المولودة بالجديد"، وتقصد بالمولودة أميرتي الصغيرة. ترى فيها الشاعرة أملاً لغدٍ جديد و"روحٍ وليد". تضطرني كلمات الصديقة أن أبتسم، برغم الغضب، وأن أتذكر أغنية الحب، برغم دقات طبول الكراهية...
وإلى الصديقة الجديدة، أهديها هذه الكلمات، وكنت أتمنى أن تكون عن "الفرح" فإذا بها عن الغضب، فإليها اعتذار مقبول إن شاء الله:
***
جاءني الأوغادُ، يا أبتِ، يريدون قتلي
يريدون اغتيالَ بَرَاءتي، وضياعَ سُبُلي
جعلوا السيوف على رقبتي، وضعوا الحرائق في فمي،
ضحك الأوغادُ، يا أبتِ، لألمي وذلي
مزقوا عني الثياب، مزقوا لحمي وشرفي،
احتسوا دم وريدي، في كؤوس من تَشَفّي
أصدروا عني الفتاوى والشرائع
حللوا كل المذابحِ والكبائرِ والجرائمِ والفظائع
بالوا على كل المعاني في حياتي، بللوا الأرضَ بدمعي،
وانتشوا، يا أبت، وهم يعلنون، أنهم قد سرقوا حُلمي
وأن الفجر قد صار بعيداً، وليس في الساعاتِ نورٌ بعد ليلي
***
قل لي متى، أيها المحبوب، تأتي، فيلوذون هرباً
متى تأتي فتحرق دنياهم جحيماً وغضباً
متى تدفع السيف عني، وتحيك لي من الأبيض ثوباً
وتجفف عني دموعي، وترد قلبي في ضلوعي
وتطمئنني بأن الفجر آتٍ، وأن الحلم باقٍ،
وتزرع الدنيا سلاماً وحباً
ومتى يأتي اليوم، يا أبتِ، لا نراهم من جديد
وأنام في ذراعيك وأحلم، مثل عصفور وليد
قل لي متى
***
8 comments:
رائع يا غاندي..
إنت اللي عامل الصورة؟
بس برضه أنا مش هاتسرّع وأنسبها للقاعدة أو غيرها قبل التحقيقات، دي غلطة كبيرة وسهلة.
ـ
برغم الإكتئاب اللي جالي من الصبح بسبب الخبر، إلا اني في اليوم لاحظت من ناس بسيطة تمييز واضح بين الإسلام والإسلام السياسي بكل مستوياته، كمان كان الهجوم من خلال الإسلام نفسه
عارف إن حياة إنسان أغلى من تغيير أراء مغلوطة، لكن ينبغي علينا سماع الأشجار وهي تنمو بصوتها الخافت مثلما سمعنا صوت سقوط الأشجار المقطوعة
حلوة القصيدة، بتفكرني بالمرثية (الاصحاح) الثالثة في مراثي إرميا
لكن الأهم من كل ده، مبرووووووووووك يا زعيم، الإرهابين عرفوا ينسوني الأهم
شكراً يا دكتور، الصورة من تركيبي من حوالي 12 صورة مختلفة، أنت عارف بقى أنا منتسب للفن بالعافية
و ايه الخطأ في نسبها للقاعدة؟ انا احب انسبها للبهايم ، و البهايم عندي اسم تاني للمتطرفين ، اكيد هايطلع واحد يقول دا اكيد الوساد اللي عامل العملة دي، و التاني هايقول دا العراقيين اللي بيكرهونا عشان احنا مؤيدين للاحتلال الأمريكي ، و كمان يمكن واحد فلسطيني غضبان مننا عشان احنا بنحب اسرائيل ، و مافيش مانع ان واحد من سي اي ايه راح موت نفسه فطيس لخدمة الأحمر و الأبيض و الأزرق ، و في الاخر هايطلع واحد مصري ابن مصري متربي وسطنا و كان بيروح نفس مدارسنا و بياكل نفس اكلنا ، و اكيد هايطلع واحد يقول ماهو من ظلم الحكومة للبهيم اللي فجر نفسه!!! ، و في جميع الأحوال ماحدش مننا يقدر يدين اللي عمل كده ، بس احنا اللي نقدر نعمله اننا ندين اليهود و الامريكان و العراقيين و سكان كوكب المريخ
غاندي: شكراً جزيلاً على الإهداء، وعلى لقب "صديقة" الغالي جداً: أرأيت كيف بدأت الوليدة في ربط خيوط محبة بين الغرباء وهي لم تخط بعد خطواتها الأولى؟
المقال كله جميل، ولا أعرف ماذا عساي أفعل لو مس شيء من هذا من أحب، شيء فظيع
تيا لها الكثير من المعجبين: هناك خطاب موجه إليها على مدونة درش www.safsata.blogspot.com يعني هذه الصغيرة جداً حديث الساعة، يبدو إننا كلنا تعبنا من توجيه الأحاديث للكبار فوجهنا أحاديثنا لهذا الملاك الذي لا ذنب له!
نقطة جانبية: أحييك جداً على هربك بتيا من شراسة العاملين في الحقل الطبي بلا ضمير، لا أصدق أن انساناً يجرح طفلاً بدون أي داع ساعياً لحفنة جنيهات، يبدو إن العنف واستسهال آلام الآخرين مغروس فينا حتى النخاع!!
وانطلقت خارجاً من المعمل وأنا أشعر أني أهرب بها من أولى معاركها مع الظلم والإهمال والفساد في هذا العالم
ياااه
لو نقدر كلنا نجرى من معامل الظلم و الفساد و الأهمال
انا كنت جريت لحد ماخرجت الى فضاء العدل و الحريه
كلامك شوفته صورة قدامى
رائع يا غاندى
أنا أيضا يا عماد رأيت كلامه مشهد أمام عينى :(
Post a Comment