Thursday, November 19, 2009

ما زالت الفرصة موجودة للتأهل

خسرت مصر مباراة التأهل لكأس العالم، وبات المصريون ليلة كئيبة شبه معتادة. أسبوع أو أسبوعين التف فيهما المصريون حول حلم واحد، والآن تبخر. لكن، وقبل أن ينفض المولد، وتعود ريما لعادتها القديمة، أريد أن أدعوكم لنتأهل في ثمان بطولات أخرى، لا تقل أهمية، ولا تقل صعوبة عن كأس العالم، بطولات طال غيابنا عنها أكثر كثيراً من العشرين عاماً التي نتندر بها:

أ - في منتصف عام 2011، تقام بطولة اختيار رئيس الجمهورية. منذ ما يقرب من مئتي عام، والشعب المصري لم يختر رئيسه. نكاد نكون الدولة الوحيدة في العالم التي يحكمها نفس الشخص منذ 30 عاماً، وتجري كل التجهيزات على قدم وساق لكي يتولى ابنه حكم مصر من بعده. لدينا 18 شهراً لكي نقوم بإعداد بديل، ونحاول التأهل في بطولة نملك كل أوراقها.

ب - في مصر ما لا يقل عن 15 مليون يعيشون تحت خط الفقر، وما لا يزيد عن 15 ألف يعيشون فوق خط الغنى الفاحش. بحسبة بسيطة، نحن مقبلون على ثورة جياع تُرجِعنا 50 عاماً إلى الوراء. كل لحظة تمر ونحن لا نتأهل في بطولة العدالة الاجتماعية، نُخاطر بالهبوط إلى قاع الفوضى. كل مجهود نقوم به مع هذه العائلات المنكوبة يُحسن من فرص النجاه.

ج - تحتل مصر مرتبة متقدمة في الدول التي يموت فيها الناس بمجرد أن يمرضوا !! انفلوانزا الطيور والخنازير مجرد مِثال. تخفيض عدد الوفيات الناتجة عن سوء مستوى الرعاية الصحية هي بطولة يجب أن نتأهل فيها، أو نموت. لدينا آلاف الأطباء المُثقفين المُتَعلمين الذين بإمكانهم تغيير الوضع إن عملوا سوياً وسريعاً

د - هناك بطولة عالم سنوية لا يعرفها أحد في مصر، لاختيار أفضل الجامعات على مستوى العالم. هذه البطولة لم نتأهل فيها ولا مرة واحدة (ولا لزوم للمقارنة مع عدد الجامعات الاسرائيلية مثلاً لكي لا نُصاب بالإحباط). إصلاح التعليم العالي في مصر يُفتَرَض أن يكون ممكناً، باعتبار أننا نتكلم عن كيان يضم أفضل العقول المُتَعَلِمة في مصر، أساتذة ومعيدين وطلاب. فهل نتأهل في هذه البطولة، أم نكتفي بأن يكون كل هؤلاء من مُشَجعي المنتخب الوطني!

ه - العالم كله يلعب بطولة في كل يوم، على خلاف بطولة الكرة التي تأتي مرة كل أربعة أعوام. البطولة اسمها "الإنتاجية". الحسبة بسيطة، كل دولة تُحاول أن يفوق انتاج كل فرد فيها ما يستهلكه، بما يعني أن تستطيع الدولة تصدير الفائض، وبالتالي زيادة ثروة كل فرد، وبالتالي الاستثمار في البنية التحتية للمستقبل وفي مستوى معيشة أفضل. كل الفارق بين دولة مثل الصين ومصر هو في إنتاجية الفرد الواحد. إنها بطولة العالم في العمل، الالتزام، والإدارة. أين يأتي موقعنا في هذه البطولة؟

و - منذ ما يقرب من 80 عاماً، كان لدينا منتخب عبقري من المُبدعين في كل المجالات، كان خط الهجوم يتكون من اسماء مثل العقاد وطه حسين والحكيم، كان منتخب الشباب فيه أسماء مثل يوسف إدريس ومحفوظ ويوسف شاهين. في كل ميدان من ميادين الإبداع كان لدينا أبطال عالم، في الإعلام، والأدب، والسينما، والإذاعة، والموسيقى والغناء. كُنا دائماً مرشحين لنيل الكأس في مُختلف المحافل. كانت القاهرة هي عاصمة الإبداع في العالم العربي، و يقصدها المُبدعون من كل صوب. الآن، حتى مهرجانتنا المدفوعة لا يحضرها أحد. في بريطانيا، وتعداد سكانها أقل من مصر بعشرين مليون أو يزيد، يتم نشر 200 ألف كتاب جديد كل عام. كم كتاب تظنون نقوم بنشره في مصر، ومن يقرأ؟ هذه بطولة عالم تستحق أن نلعبها بكل جوارحنا، لأننا بلا ثقافة ولا إبداع ليس لنا هوية.

ز - عندما نكون مهزومين في الكرة، نقول يا رب. عندما نكون مهزومين في كل شيء، في حريتنا وثقافتنا وثقتنا بأنفسنا، نلجأ إلى طرف خارجي نستجد به من الاضطهاد الذي نتعرض له، ويصير التدين الزائد علامة انهزام، والتفسير المتطرف مهرباً من مواجهة الحقيقة. لدينا بطولة عالم لأن العالم يتقدم ونحن نتراجع، نسير خلفاً مدعومين بخرافات دينية لا محل لها من الإعراب، ويقودنا شيوخ وقسس لا صلاح لهم إلا في إلهاب العقول. نريد أن نتأهل إلى العالم الحقيقي، الذي يفكر فيه الإنسان بعقله، وتُحترم فيه حرية كل المعتقدات، ويكون الالتزام بالقانون واحترام إنسانية الآخر أهم من الالتزام بمفردات العبادة.

ح - خسرت مصر العديد من البطولات في الثلاثين عاماً الماضية. بطولة عقود الغاز والأسمنت التي منحناها بأبخس الأسعار، بطولة تأمين العلاقات مع دول حوض النيل، بطولة انتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية، بطولة الحفاظ على الأراضي المتميزة في كافة أنحاء مصر من النهب على يد أصحاب المعالي. والآن، ماذا تبقى لنخوض به معارك المستقبل؟ هل لدينا خطة اقتصادية للخمسين عاماً القادمة؟ هل نعرف ما الذي سنفعله عندما يصل المصريون إلى 100 مليون فماً جائعاً؟ نحتاج أن نتأهل في بطولة حاسمة، اسمها مستقبل مصر الاقتصادي، من أجل أولادنا.

ط - من العوامل الهامة في التأهل إلى كأس العالم أن تفوز خارج أرضك. وقد تعودنا مؤخراً أن نخسر خارج الأرض. ينظر لنا أفارقة الشرق بتحفز، يُهمِلنا أفارقة الغرب والجنوب، يكرهنا أفارقة الشمال إلى حد القتل. يحتقرنا عرب الخليج وقد صرنا من العِمالة الغير مرغوب فيها، يستحل عرب فلسطين كل ما لنا كأنه لهم، لا يعرف الأوروبيون عنا إلا الأقصر والغردقة، ويضحك الأمريكان علينا وهم يتلاعبون بمقدراتنا. بطولة العالم الحقيقية هي أن تعيد مصر النظر في علاقاتها مع كل هذه الأطراف، بطولة العالم هي أن يحترمنا الرؤساء وتحبنا الشعوب، بطولة العالم هي أن يرانا الآخرون كما نحب نحن أن نرى أنفسنا.

والآن، إما أن نختار أن يعمل كل منا في مجاله لنتأهل في أي واحدة من هذه البطولات، وإما أن نجلس على الرصيف، ننتظر في خشوع، مباريات تأهل المنتخب الوطني لكأس العالم 2014. أيهما تختار؟

Wednesday, November 18, 2009

اتغلبي يا مصر براحتك


اتْغِلْبِي يا مصر ولا يِهِمِّك
ولا يفرق، ولا يحرَق دَمِّك
والله مسامحِك وباحبِك،
ولا فوز هيزيدك يا جميلة، ولا غُلب العالم هيقِلك

***

اتغِلْبي، وأنا برضه هأغني، ما هه ياما زمان فرَّحتينا
هأرقص لك بلدي في يوم فرحة، وأأقيدلِك نور وأنتِ حزينة
ما غلاوتك عندي بالدنيا، إن كان في الغُمه أو النُصرة
والحب ده ساكن مش نزوة، تتغلبي أرميه من البلكونة

***

اتْغِلْبِي يا مصر إن كان لازم
إن كان الحَظ مِعَدينا
إن وقفِت عارضة في طريقنا
أو شوطه فاتت في إيدينا
اتْغِلْبِي في غلطة صفارة، أو كره تايهة ومكارة
لو كان مش يومك، هنسامحك
ونكمل ... والصبر مالينا

***

خدي بالِك، السر هأقوله، خدي بالِك، خليه متصان
لو أقولك مسموح تتغلبي، أنا نفسي تجيبي ست اجوان
أنا نفسي تبقي المحروسة، وعروسة، وفرحك في سودان
أنا بس كتبت الموال، على أمل إنه في كل الاحوال
تعرفي إن القلب ملان، وإن الحب، يا بلدي يا غالية، بالمجان

(فقط للتاريخ: تمت كتابة هذه الأبيات قبل مباراة مصر والجزائر بيومين)

Wednesday, September 02, 2009

من دفتر حكايات الوطن: عبيد وسبايا



رحت أطلب الحكايات التي افتقدتها
رحت أبحث عن الوطن، لأجدني
فجاءت الحكايات لتزيد غربتي غربتين

حكايات الثلاثة ملايين أو يزيد من أطفال الشوارع
أجساد تنتهك أو تباع، وحوش في طور النمو
فتيات تُخَزن ليتبادل عليها الفتيان أدوارهم لأسابيع
وفتيان يُخطَفون لتستهلكهم كائنات مريضة ثم تلقيهم إلى الغربان

حكايات أربع أخماس فتيات القرى اللاتي تعرضن للختان
غارقات في الجهل وانعدام الوجود
يقبلن الاغتصاب والضرب والمرض، من الأب والأخ والزوج

حكايات الخمس الأخير، المثقفات بنات الذوات
الواقفات في طابور انتظار المخلص، ابن الحلال
ليملي عليهن كيف يعشن، ماذا يرتدين ومن يكن
الضائعات في وهم الاحتياج لرجل يكمل ذاوتهن الناقصة
المستترات من أجسادهن كأنها العقاب الذي حكم به خالقها

حكايات العقول التي أصابها الخمول من قلة العمل
عقول لا تقل ذكاءً عن سواها في كل أرجاء الأرض
لكنها تسطحت وأهملت وأصابها الجفاف
فصارت كل الحكايات سواء
وصار اليوم بلا هدف
وأصبح الحماس قاصراً على مباراة كرة، أو "أفيه" في فيلم نصف جيد
حكايات من يُقاد بدلاً من أن يقود، ومن يستهلك في شره، ومن لا يرى إلا نفسه
حكايات الفراغ، يحكيها من لا يعرفون عن الحياة إلا دوائرهم الضيقة، وصراعاتهم الطفيلية

حكايات الذين يتندرون على القهاوي
بحكايات عن الآخر، يأتون بها من شيوخ وقسس التطرف على قنوات التليفزيون
يضحكون في جهل، مفسدين في العقل والروح

حكايات الذين يكتبون عن عظمة السيد المبجل، من ليس مثله في تاريخ الوطن
وترانيم الاحتفال بقدوم الإبن المنتظر، إبن الأصول الذي سيكمل المسيرة

وحكايات من يبحثون في كل ركن عن نافذة للخروج
لاعنين اليوم الذي فيه وُلدوا على ضفاف هذا النهر
حالمين بيوم الخلاص، في أرض ما وراء البحار

نعم، هكذا حدثتني الحكايات وهكذا أحزنتني
ووجدتني أراجع أبيات نسيتها من زمن
تُحكى على لسان بشر الحافي

من سيخلصها غيرك أنت وصحبك
من يرفع هذا الكرب
وينقذ هذا الكوكب
غيرك أنت وصحبك

Monday, March 19, 2007

حكايات بلا عنوان

يجلس في منتصف قاعة شديدة الكبر، على مقعد معدني أحمر غير مريح على الإطلاق. أما القاعة نفسها فتشبه صالة مغطاة من صالات كرة السلة، غير أنها أكبر اتساعاً بمراحل، وليس بها أثر لمقاعد المتفرجين، بل مجرد حوائط عالية بلا لون، وسقف بلا إضاءة، وإن كانت القاعة نفسها مضاءة بشدة من مصدر غير معلوم...


لا يوجد أحد غيره على مرمى البصر، وإن كان يشعر بكل تأكيد أن القاعة شديدة الازدحام، يكاد يشعر بالضوضاء الرهيبة المنبعثة من ملايين الحوارات والضحكات والتأوهات التي لا معنى لها، وتصيبه هذه الأصوات بألم في الرأس وضيق في التنفس، حتى ولو لم يرتقي أي منها إلى أذنيه.


يسأل نفسه عن سبب وجوده، أو ربما عن الوحدة برغم وجود كل هذه الأصوات، لكنه يتراجع سريعاً عن السؤال الذي يعلم أنه بلا إجابة حاضرة. يفضل إذن أن يتساءل عن معنى أن يكون الإنسان مؤمناً بلا دين، عاشقاً بلا معشوق، وفناناً بدون عمل فني واحد... ألا يشبه ذلك جداً أن يكون الإنسان وحيداً في قاعة مليئة بالملايين الذين يتحاورون بلا صوت؟


ينهض من على المقعد المعدني الأحمر، ويحاول أن يرمي كرة في السلة الغير موجودة، لطالما أحب أن يقوم بذلك في أيام طفولته... يدرك الآن جيداً أنه لم يعد طفلاً، لكنه لا يتذكر كيف تمكن من أن ينمو دون أن يخرج من هذه القاعة أبداً... كيف ينظر في نفسه فيرى ما يشبه انفجاراً كونياً من التساؤلات – وهو بشكل ما يعلم أن التساؤلات ليست في الواقع إلا الوجه الآخر للمعرفة، والمعرفة هي الجسد المرئي للإيمان والإيمان هو الروح التي خلقها الحب – إذن من أين تأتي التساؤلات وهو لم ير في حياته جسداً يعشقه، ولا إلهاً يعبده، ولا كوناً ينفجر؟؟ إنما هي مجرد قاعة هائلة تشبه الصالات المغلقة، لها حوائط بلا لون وسقف بلا إضاءة...


تصيب الكرة السلة مرة أو مرتين، وتدور آلاف المرات على الحلقة المعدنية دون أن تقرر ما إذا كانت ستهبط أم ترتفع. يعود إلى المقعد ويحاول أن يقرر ما إذا كان الوقت قد حان لينهي هذا العبث برصاصة من سلاح وهمي. لا لم يحن بعد... فمازال ساكني القاعة الغرباء المتحاورون في صمت لا يوافقونه على الرحيل. يقول هذا لنفسه ويضحك، فلا يوجد أي سبب ليكون لهم القرار فيما يمكن أن يفعله برؤياه الخاصة، لكنه في الواقع ينتظر في بساطة أن يحبه أحدهم بما يكفي ليطلقه، إنه ينتظر أن ينهي عمله الفني المتوقف منذ ولادته وأن يتمكن أخيراً من وضع بعض الألوان على الحوائط الباهتة، ينتظر أن يصلي صلاة واحدة دون أن يسمع الأصوات في رأسه، ينتظر أن يتمكن من إدخال الكرة في السلة دون أن تلمس الحلقة أو تتردد ما بين الهبوط والصعود...


إنه ينتظر الآن على المقعد المعدني... هو ينتظر، والحوائط تنتظر، وربما أيضاً الحياة تنتظر...

Tuesday, July 11, 2006

لماذا مات أندرو؟


أندرو هو طفل في التاسعة، يتميز بابتسامة هي أجمل ما في الوجود، عيناه فيهما ذكاء وشقاوة لكن بلا خبث.
أندرو مصري قبطي، نشأ في عائلة تقدس معنى العائلة، وتمضي بها الأيام في سلام وقناعة.
أندرو يحب أن يخدم في الهيكل في قداس الجمعة، وكان هذا في الواقع آخر ما قام به، قبل أن يركب السيارة مع عائلته متجهين إلى العين السخنة ليقضوا الأجازة الأولى بعد أن أنهت أخته امتحاناتها.
أندرو... كان الوحيد الذي مات، عندما انقلبت السيارة عند الكيلو 88...
انتهت القصة، ومضى أسبوعان من الاهتمام بالمصابين، وبقت التساؤلات...

يقولون أن الموت هو قدرنا جميعاً، وأنا لا مانع لدي، لكنني بالتأكيد أشعر بالفارق ما بين موت الشيخوخة، الذي يبدو كما لو كان جزءاً لا يتجزأ من الحياة، وموت الطفل، الذي لا يمكن تسميته إلا "موت".

يقولون أن أندرو ليس الطفل الوحيد، وأنه على الأقل لم يتألم، وأنه قد قضى لحظاته الأخيرة بين من يحبهم، ولا يسعني بكل تأكيد أن أنكر ما تراه عيناي كل يوم في فلسطين والعراق وما أعلم أنه يحدث كل يوم في نصف بلاد افريقيا، بل وكل ما تؤكده الإحصائيات عما يتعرض له الأطفال في كل مكان بالعالم... لكن هذا لا يوقف التساؤلات بل يزيدها قسوة، فلماذا يموت الأطفال؟

يقولون أن الله يختارهم لحكمة لا نفهمها، فنحن لا نعرف ما الذي كانوا سيتعرضون له لو عاشوا، وهاهو أندرو قد قضى ساعاته الأخيرة يصلي فهل هناك من وقت أفضل؟ ويرفض عقلي بل وإيماني هذه الحكايات، فأنا لا أحب حديث الحكمة المخفية، لا لأنه خطأ، بل لأنه يُستخدم بعشرات المكاييل ليفسر كل شيء نقف أمامه غير فاهمين أو مصدقين ليصير الحجة العظمى لكي لا نبحث عن المعنى، فإذا كان كل شيء مقرراً مسبقاً لحكمة مخفية، أفلا يكفيكم أن نكون مسلوبي الإرادة، فتريدون أن نكون أيضاً جهلاء؟

ويقولون في المقابل أن لكل نتيجة يوجد أسباب منطقية، فهناك ربما من اختار أن يبيع كاوتش السيارة وهو شبه منتهي الصلاحية، وهناك ربما من لاحظ أن الكاوتش ليس بحاله جيده، ولم يهتم أن ينبه صاحبها، وهناك أخيراً قائد السيارة نفسه، الذي ربما كان يمكن أن يمسك بالمقود بعنف أكبر، أو ربما المشكلة فيمن علمه القيادة من عشرين عاماً... وهكذا يمضون في محاولة لإرجاع كل ألم في هذا العالم إلى خطيئة ارتكبها إنسان في يوم ما. وربما يكون كل ذلك صحيحاً بصورة ما، لكنه لا يكفي بأي حال من الأحوال لتفسير ما حدث، فكلنا نخطيء كل يوم في كل مكان بالعالم، لكن... ليست كل خطيئة تقتل طفلاً، فكأنني بالذي خلق العالم قد جعل تسعة أعشاره من الرحمة، والعُشر الباقي من العدل... فلماذا إذن يموت أندرو؟

ويقولون أخيراً: "لماذا تظن أن الموت هو أسوأ من الحياة، أو الحياة أفضل من الموت؟"، ثم ما هو الفارق بين من يعيش تسع سنوات ومن يعيش تسعين سنة؟ ألم يختبر كلاهما نفس الغنى الهائل بغض النظر عن الكم؟ ألا تكفي لحظة واحدة من الحياة لتحمل الحياة كلها إلى قلبك؟ وأصمت قليلاً، فأنا لا إجابات لدي، غير أنني أعلم – كما كان أندرو بالتأكيد يدرك ببراءته – أنني أعيش فقط هنا والآن، وأن ما تبقى من حياتي، لو كان لحظة أو مئة عام، لن يأتيني بمعنى جديد لا أستطيع أن أعيشه هنا والآن... لكنني أعلم أيضاً أنني لا أعيش لا بما يكفي ولا بما يصح، وأعلم أن اللحظة القادمة تأتيني على الأقل بفرصة جديدة، فلماذا لا يحظى الجميع بنفس الفرصة؟

هل هذه التساؤلات منطقية؟ هل هي من حقي؟ إنها على الأرجح لا تتعدى كونها نوع من البكاء المُفرغ من المشاعر، فقد كان علىَّ ألا أبكي ولم أفعل، أفلا أكتب إذن، حتى لو امتلأت الكلمات بأشباح الهستيريا؟



Thursday, May 11, 2006

من موقع الحدث: الصياد الأسود والفريسة البيضاء


هذه الصور تم التقاطها تقريباً ظهر اليوم الخميس من شارع رمسيس. تابعوا المراحل المختلفة، وديناميكية الحركة



ثم ابتسامة النهاية

Tuesday, April 04, 2006

من موقع الحدث: كسوف الشمس في السلوم - أو مصر-ليبيا رايح جاي



Solar Eclipse from Salum – Egypt

لا يوجد كلمات أو صور يمكنها أن تدعي مجرد محاولة نقل الدقائق الأربع غير العادية لرحلة الشمس وراء القمر، أو بالأحرى لرحلة القمر أمام الشمس... إنما يمكنني أن أحاول وصف رحلتنا نحن – إثنان من أهل المحروسة – لمشاهدة الحدث الأعظم

بدأنا من القاهرة يوم الثلاثاء 28 ظهراً، وعدنا إلى القاهرة في منتصف ليل الخميس، قاطعين 1500 كم بالسيارة في حوالي 60 ساعة معظمها من القيادة المتواصلة. وصلنا إلى مطروح نحو صلاة العشاء. لم أكن قد رأيت مطروح منذ ما يزيد عن 20 سنة، ولم أصدق ما رأيت...

فقد تركتها مجرد مجموعة من الشواطيء رائعة الجمال، ثم أرض ترابية صحراوية تعيش فيها الأبقار والجمال والماعز جنباً إلى جنب مع البدو، فوجدتها مدينة نظيفة جميلة التخطيط، شوارعها أسفلتية مليئة بإشارات المرور الأوتوماتيكية تخبرك كم من الثواني بقى حتى ينقلب لونها. ووجدت شوارعها مليئة بالسياح الأجانب من كل نوع، تحتفي بهم مجموعة من الراقصات الشعبيات ذات الوجه والقد الحسن، على أنغام موسيقى حسب الله الشهيرة. ووجدت المطاعم معظمها تحولت من أجل عيون الليلة إلى خمارات، ولم أصدق نفسي حينما وجدت رجال الأمن مبتسمين و– الأدهى – متعاونين.

كنت أكاد أظن أننا لسنا في المحروسة، لكنني عدت إلى طمأنينتي بسرعة حينما عرفت أن الحكومة اخترعت تذكرة ب100 جنيه لدخول السلوم، لرؤية حدث يمكن رؤيته بنفس الجمال من أي مكان على البحر قبل البوابة، وزالت دهشتي تماماً عندما أخبروني أنه – نظراً لدواعي أمنية – فإنه لن يُسمح بدخول أي سيارة إلى السلوم بعد السابعة صباحاً، رغم أن الحدث لا يبدأ إلا بعدها بأربع ساعات. لكن ما علينا، كنا سعداء ... وقلنا "ماشي".

وصلنا إلى السلوم في الواقع نحو الثامنة صباحاً، ولم يكن هناك مشكلة في الدخول، لكن كان علينا – لذات الدواعي الأمنية – ترك السيارة على مدخل السلوم، والتنقل بأتوبيس عام غرب الدلتا إلى داخل المدينة. ومرة أخرى تأكدت أننا مازلنا في مصر حينما ظهر في الأتوبيس "كمسري" أصر أن نقطع تذكرة بجنيه حق النقل، مع أننا دفعنا بالفعل مئة جنيه لنركن السيارة خارج المدينة !!! وكانت أجمل المفاجآت هي مقابلة مجموعة من الأصدقاء المدونين، لا نتقابل إلا نادراً في القاهرة، لكن ها نحن نتقابل في ليبيا – إلا قليلاً –. وهم بلا ترتيب اندهاش، أفريقانو، شموسة، ألف، مصطفى والست نعامة

كانت المواقع المُعدة لاستقبال الزائرين تنقسم إلى ما تحت الهضبة، وهو موقع لطيف أمام البحر – الغير مسموح بالاقتراب منه لسبب غير مفهوم – وما فوق الهضبة، حيث سيشرفنا سيادة رئيس الجمهورية، وهو تقريباً على الحدود مع ليبيا بالضبط، وهو موقع سيء للغاية، فلا هو يطل على البحر أو على أي منظر طبيعي على الإطلاق، والجو مشبع بالتراب والشبورة بما يمنع الرؤية الجيدة. وعليه، فقد قررنا أن نستفيد نحن أيضاً من فهلوتنا المصرية، وأقنعنا سائق الأتوبيس أن ينزلنا في موقع فريد وسط الهضبة، حيث نجلس بين الصخور، وتحتنا البحر، ويميننا المدينة، وفوقنا الجبل. وأدعي أنه أفضل موقع على الإطلاق استمتعنا به أنا ورفيقي وحفنة من الأجانب الذين جاءوا وراءنا مؤمنين بفهلوة المصري العجيبة. وكان وجودهم حماية عظيمة لنا، عندما حاول مجندو حرس الحدود طردنا – لأننا غالباً فرقة صاعقة من الأعداء – ادعينا عدم الفهم، ورسمنا البلاهة على وجوهنا حتى تركونا وهم يسبوننا "بالعربي" الذي لا نفهمه.

بدأ الكسوف في موعده تماماً – وهو من الأشياء القليلة التي تبدأ في موعدها – وبدأت الشمس تتآكل قطعة قطعة، فيتغير شكلها من تفاحة مقضومة، إلى قارب، إلى موزة... والضوء موجود لكنه يلمع، والجو أبرد قليلاً لكنه محتمل، والمد يتحرك خطوة خطوة نحو الشاطيء... ثم فجأة – أقول فجأة وبدون سابق إنذار رغم أننا كنا نعلم – أظلمت الدنيا... وحدث كل شيء بسرعة عجيبة... صار من الممكن النظر مباشرة إلى الشمس، لترى قرصاً أسوداًً يحيط به هالة بيضاء ناصعة لا تنير إلى مكانها، والدنيا ظلام من حولك، لكنها عند الأفق من كل ناحية يخطها مساحة حمراء منيرة بعض الشيء، والبرد أصبح واضح المعالم، والطيور التي لا أراها في العادة رأيتها تطير في الأغلب عائدة إلى أعشاشها مفزوعة، والناموس صوته من حولي شديد الوضوح، يختلط مع صوت مآذن الجوامع المكبرة المرتلة صلاة الكسوف، وصوت زغاريد نساء البدو اللاتي رأين في الحدث سبباً للفرح، ويُضاف على كل هذه الأصوات تكتكات كاميراتي الثلاث التي تُسابق الزمن لتسجيل الحدث.

دقائق أربع، مرت كثوانٍ ثلاث... ثم عاد كل شيء إلى سابق عهده، وبقت الذكرى لا تنمحي. وبقى انتظار مُمل ل21 سنة قادمة، حينما تأتيني أميرتي الصغيرة لتستأذني أن تُسافر مع أصحابها لرؤية الeclipse في وادي الملوك... ووقتها، ربما أوافق!!