وداعاً أيتها الحياة التي أعرفها…فأنا مسافر إلى المجهول
الأحد: يقولون أن جاليليو بدأ حياته العلمية عندما استمع -بالصدفة- إلى محاضرة في الهندسة، وهو في التاسعة عشرة!!! أعتقد أن شيئاً من ذلك قد حدث لي أيضاً، مع كوني أصغر قليلاً. أنا لست عبقرياً، وكل ما أعرفه عن العلم أننا ندرسه في القسم العلمي…كيمياء وأحياء وفيزياء وكل منها على 50 درجة في الثانوية العامة. كما أحب في العلم الاختراعات العظيمة، مثل التلفزيون وألعاب الكمبيوتر…
ما حدث هو أنني قررت اليوم أن أفهم سر الحياة…فتحت الكتاب المقدس على أول صفحة: "في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه" !!! سألت أبي ما معنى ذلك؟ منذ كم من السنوات خلق العالم؟ وكيف حدث ذلك؟ هل الحقيقة في الكتاب المقدس؟ ضحك أبي مني وأعطاني 25 كتاباً يزيد إجمالي وزنهم على 15 كجم، وقال لي: "الحقيقة تبدأ من هنا"…وليكن!
الاثنين: منذ 2600 سنة، جلس رجل اسمه طاليس على البحر، وهذا شيء عادي، لكن الغير عادي هو أنه سأل نفسه: "كيف خلق الكون؟" وأجاب مخطئاً: "إن كل شيء كان في الأصل ماء"، لكن هذه الإجابة الخاطئة كانت هي الجملة الأولى في تاريخ العلم، فهي أول محاولة لتفسير الخليقة بدون استخدام "الآلهة" والأساطير. وقبلها كان سقوط المطر لا يحدث بسبب التكثف، ولا الشروق بسبب دوران الأرض، لكن بسبب فرح الآلهة وغضبهم ومعاركهم !!!
أتذكر أنه كانت لدي أفكار كهذه في طفولتي، وكنت أعتقد أن الله يصيبني بألم في المعدة عقاباً على تأخري…الآن أعرف أن ذلك كان بسبب محل السندوتشات بجانب المدرسة.
الثلاثاء: بعد طاليس بثلاثة قرون، اكتشف أريستاكوس أن الأرض تدور حول الشمس، لكن هذا الاكتشاف الرهيب لم يؤخذ مأخذ الجد إلا بعد 18 قرناً كاملاً، أي سنة 1500 بالضبط، وكان الناس حتى وقتها مازالوا فخورين بأن الله خلق الأرض مركزاً الكون. كوبرنيكس كان له رأي آخر، فقد أصر على أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، وجاء جاليليو بتليسكوبه العجيب ليخبرنا أيضاً أن هذا الكون رهيب الاتساع، وأن كوكبنا "تافه"، لا يتعدى ذرة رمل صغيرة في الصحراء الكبرى. وانهار العمود الأول في هيكل مركزية الإنسان في نظر نفسه.
أنا أيضاً، جاءني وقت اعتقدت فيه بأنني شخصياً مركز الكون، وأن أبي وأصحابي والشمس والنيل وبنت الجيران (القمر)، كلهم خلقوا خصيصاً من أجلي. حتى أثبت لي التلسكوب (النظارة المعظمة في الواقع) عكس ذلك!! وها أنا، مجرد مراهق ضمن مئات الملايين، الذين يحبون بنت الجيران.
الأربعاء: أكملت قراءة بعض الإصحاحات من سفر التكوين، ثم عدت إلى كتبي وأنا في قمة الحيرة. هل قام آدم بتسمية ملايين الأنواع من الحيوانات بأسمائها؟ وهل حمل نوح زوجين من كل منها، حتى السمك والذباب والثعابين؟؟؟ وكيف استطاع أن ينزل الكنجارو في أستراليا، والبطريق في القطب الشمالي؟؟ ظلت هذه التساؤلات تشغل البشرية، حتى اقترح داروين مبدأ "الانتخاب الطبيعي"، وملخصه أن الأنواع تتكاثر، وبسبب اختلافاتها الجسدية، يستطيع بعضها أن يبقى بينما ينقرض البعض الآخر…بهذه الطريقة تطور الإنسان من الحيوان من الزواحف العملاقة من الأسماك من الطحالب من الجراثيم !!!!!
وانهار العمود الثاني في فخر الإنسان بنفسه، فقد اكتشف أنه مجرد حلقة من حلقات هذه المسيرة الممتدة عبر ملايين السنين.
لا يعجبني هذا الكلام، فربما يكون أخي أقوى مني وربما تكون أختي أذكي (أقول ربما!)، ربما هم أصلح مني للبقاء والتكاثر، وربما يتطور عنهم إنسان سوبرمان…لكني أبقى مع ذلك مؤمناً تماماً أن الله خلقني لذاتي، وأحبني كما أنا، هذا الإنسان الغبي الضعيف الذي فيّ.
الخميس: هل أنا مخير أم مسير؟ سؤال يتكرر بكثرة كلما قرأت أسماء مثل مندل أو سيجموند فرويد…عندما اكتشف مندل قوانين الوراثة، وضع حدوداً واضحة -لكن شاسعة- لما كان يمكن أن يسفر عنه تزاوج أمي وأبي (14 مليار احتمال تقريباً!!)، وعندما وضع فرويد نظريته في التحليل النفسي، دمر ما تبقى للإنسان من فخر على هذا الكوكب. نظرية فرويد -برغم كل ما بها من أخطاء- وضعت علامات استفهام كبرى عن معنى الشخصية والطبع والإرادة، أنا قضيت اليوم كله أنظر إلى كل زملائي بالمدرسة باعتبارهم معقدين، هذا متفوق بسبب عقدة نقص من طفولته، وهذا صديقي لأن لديه احتياجات عاطفية ترجع إلى وقت الرضاعة…وهكذا، وحينما انتهى اليوم شعرت بالندم الشديد وبالحنق…لا يا سيد فرويد، إذا قال العلم أن انفعالاتنا هي ردود فعل لخبرات طفولتنا فالعلم قد يكون على صواب، لكنني بكل تأكيد حر تماماً في اختيار رد الفعل الذي يناسبني، فإذا أحب أهلي اخوتي أكثر مني…قد يجعل مني ذلك أباً ظالماً أو حنوناً على حد سواء.
الجمعة: اليوم أجازة وعندي وقت أكثر لكي أقرأ، تركت العلم جانباً وانهمكت في قراءة كتاب عن "التكنولوجيا"، هذه المنتجات الرهيبة الغريبة العجيبة اللذيذة الخطيرة التي ابتكرها العلماء…ينظر إلى جدي في عجب ويمصمص شفتيه قائلاً: "جيل كمبيوتر"، ياجدو…أنتم كنتم جيل القنبلة الذرية وصعود القمر والتلفزيون، ولم تكن كلها أشياء طيبة ولا شريرة…نحن جيل الكمبيوتر والموبايل والدش والانترنت، وأولادي سيكونون جيل الاستنساخ وربما يرى أحفادي السفر عبر الكواكب!!! لست أخشى التكنولوجيا ولا أنبهر بها في الوقت ذاته، لكني من اليوم سأحاول أن أفهمها وأفهم ما وراءها من العلم…وهذا التزام مني لك يا مذكراتي العزيزة.
السبت: منذ أقل من مائة وخمسين عاماً، اعتبر الناس اختراع التطعيم تحدي للسماء وإرادة الله، ورفضوا تخدير المرأة لأن الله أخبرها في العهد القديم أنها "بالوجع ستحملين وتلدين"!! الآن تدور المناقشات حول الاستنساخ إن كان حرام أو حلال…وبينما تتحرك الدنيا الآن بسرعة الميجاهيرتز، مازلنا نحن -كما قرأت في الجريدة- نحتفل بعلماء يحاولون التنبأ بالمستقبل بتحليل الإنجيل بمعادلات رياضية، ويخترعون نظريات لاكتشاف سرعة الضوء من القرآن وقراءة اسم الجلالة في الخلايا الحية…اللهم لا اعتراض!!!!
يقولون في الكتب أن عقولنا، بإمكانياتها الحالية، لن تستطيع أن تتوافق مع هذا التقدم الرهيب في العلم والتكنولوجيا، وأننا بحاجة إلى عقول جديدة لكي نتمكن من الحياة في هذا العالم الجديد…صليت اليوم إلى الرب أن يعطيني أن أطور عقلي بالطريقة التي يريدها وللهدف الذي يريده…
تصبحي على خير يا مذكراتي العزيزة
مراهق مصري
ملحوظة: لسببٍ ما، ضاعت هذه التدوينة بعد أن نشرتها، فها أنا أنشرها مرة ثانية، وأتبعها بجزءها الثاني خلال ساعات.
4 comments:
يا خبر
دانت مذكراتك دي اكتشاف
ياريت تكملها
وياريت لو ليها بقيه تسمحلي اشوفها
تحياتي
هذه أو مرة أزور فيها مدونتك. كتاباتك شيقة وجميلة والموضوعات التي تتناولها تعود بي إلى مراهتي عندما غطست في كتاب "تاريخ الفلسفة الغربية" لبرتراند راسل. وخرجت منه -على رأي أبي- و حيرتي أكثر مما دخلت :)
تحياتي!
يحيى: يا فندم أنت تشوف كل ما تريد. الحقيقة هي حاجة كده زي 15 حلقة، أنشر واحده كل أسبوع، وأضعهم في القائمة على الشمال لتسهيل البحث
سامية: أهلاً وسهلاً. أنا دخلت على مدونتك حالاً ووجدت إني لازم أقرأ بتركيز. شكلي كده هأبقى زائر دائم
أما القراءة في الفلسفة، ثم ممارستها، فهي من أمتع التجارب الإنسانية التي يُحرم منها غالبية البشر، تحت ادعاء أنها ترف أو خرف
ترف وخرف؟ ربنا يسامحهم
أهلاً بيك في مدونتي "المشكلة"(حتلاقي قصص وأشباه قصص وكلام كبير وكلام صغير وكلام أنا مش قده! :)
أرجو انك تستمتع قد ما أنا استمتعت بمدونتك
Post a Comment