Thursday, November 24, 2005

إشكاليات على طريق المصالحة الدينية

إذن، مرت تقريباً مرحلتان من ثلاثة في انتخابات البرلمان المصري. والنتائج أقل ما توصف به أنها غير مبشرة بالخير، من حيث حصول الحزب الحاكم على الأغلبية المطلقة، وانهيار المعارضة السياسية، وصعود البديل الأخطر متمثلاً في الإخوان المسلمين. لكن... وقبل أن يأخذنا الحوار عن تداعيات الانتخابات – وهو حوار أحب أن أؤجله إلى ما بعد نهاية المرحلة الثالثة – أحب أن نكمل حديثاً قد بدأناه (هنا وهنا) عقب أحداث محرم بك، عن المصالحة الدينية في مصر.

عندما نتصدى لحل مشكلة مثل "المصالحة الدينية" في مصر، نصطدم فوراً بمجموعة من الإشكاليات التي جعلت هذه القضية أكثر تعقيداً في مصر عنها في دول أخرى، وفي هذا الزمن عن أزمنة سابقة.

وأظن – اختصاراً – أنه ينبغي البدء بثلاثة إشكاليات حادة على درجة عالية من الخطورة: المرجعية الدينية، موروث القهر، والتخلف السياسي

المرجعية الدينية
خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، ولأسباب سياسية (انهيار القومية العربية، انهيار الحلم الاشتراكي...)، واجتماعية/اقتصادية (الانفتاح الاقتصادي، أموال الخليج العربي...) وأخرى، تحولت المرجعية الأساسية عند جموع الشعب المصري إلى مرجعية دينية (باستبعاد المرجعية المادية الأقوى تأثيراً بالطبع، والتي لا فِكر لها ولا هدف أبعد من مجرد اشباع الذات). فصار انتماء المواطن الوحيد - بعد الرزق - هو دينه وأحكام دينه. وصار من الطبيعي اليوم أن نعمم هذا الوصف على جموع المصريين، بغض النظر عن الديانة والطبقة الاجتماعية، فما بدأ عند الطبقة الوسطى-المنخفضة المسلمة، ما لبث أن امتد وأثار ردود فعل حتى وصل إلى الطبقة المرتفعة المسيحية، وكل ما بينهما من طبقات عن أصحاب المِلَتين.

وامتد هذا التيار حتى اقتحم كل مكان كان في الماضي مُحرماً عليه دخوله – لأسباب ترتبط بطبيعة هذه الأماكن -، فصارت المرجعية الدينية هي بشكل أو آخر النمط السائد عند قادة الجيش والساسة والصحفيين والفنانين والرياضيين وغيرهم.

وحتى لا ندخل في جدل لا خروج منه، تعالوا نتجاوز السؤال التقليدي عما إذا كانت هذه الموجة المزعومة من "التدين" هي شيء إيجابي أو سلبي، ودعونا نتفق على حقيقة أكثر بساطة بكثير، وهي أن تسلط المرجعية الدينية إلى هذا الحد يُمثل صعوبة واضحة في طريق "التعايش الديني". فنحن إذاً في موقف أصعب كثيراً من بلاد تعيش أغلب شعوبها على مرجعيات فكرية وفلسفية مختلفة، وذلك لأسباب ثلاثة: الأول هو سهولة طرح الحوار الديني في هذه المجتمعات، طالما يتعامل الناس أصلاً مع الدين باعتباره جزء من مرجعيتهم وليس كلها. السبب الثاني الذي يجعل حالتهم أسهل هو أن التعدد يخلق نوع من الحيرة التي تزيد اجبارياً مساحة القبول، وهي مساحة تقل جداً إن كان الأغلبية الساحقة من الشعب ينتمون إلى طائفتين فقط هم المسلمين السنة والأقباط الأرثوذكس.

أما السبب الثالث فهو مرتبط بطبيعة المرجعية الدينية نفسها، والتي تختلف جذرياً عن المرجعية الفكرية أو الفلسفية. فالدين بطبيعته لا يحتمل الكثير من التسامح مع وجود الآخر، وهذه حقيقة لا يسعنا إنكارها مهما كررنا من آيات وتفسيرات القبول والتعايش السلمي، فهذه كلها تقع على هامش الاعتقاد، بعكس كل مفردات التفرد و"الصواب المطلق" والنرجسية المقدسة، والتي تسكن قلب كل دين منذ نشأته الأولى.

وهذه المفردات لا يمكننا رفضها أو مقاومتها، إنها ملتصقة بطبيعة الدين مثلما ترتبط بالأم مشاعر تفضيل أبناءها على كل أطفال العالم، ونحن مع ذلك لا نتهم الأمهات بالأنانية أو عدم العدل. فلا يوجد – بحسب معلوماتي – دين واحد لا يقوم على فكرة أن "الإله" يطلب من عباده إتباع هذا الدين دون غيره.

النتيجة إذن باختصار، أننا أصبحنا نعيش في مجتمع من قطبين يميل كلاهما نحو المزيد من الالتصاق بدينه، وتغليب هذا الالتصاق على كل أشكال التفاعل الأخرى مع الحياة، مما يُعقد نسبياً من محاولة خلق حياة مشتركة بين الطرفين. وعندما نقول حياة مشتركة نعني بها حياة حقيقية مليئة بالحب والأحلام وتبادل الخبرات والتعاضد... الارتواء من الآخر، ومشاركته في جزء من أرواحنا وغنى حياتنا... عندما نقول حياة مشتركة... فإننا نعني في الواقع "حياة واحدة".

هل نقترح عليكم أن تقللوا من تدينكم لتتمكنوا من اختبار هذه الحياة الواحدة؟؟ ليس لنا قِبل باقتراح كهذا على أية حال. لكنني أتصور أن المشكلة ليست في التدين في حد ذاته، بل في كونه يمثل القيمة الوحيدة "المحترمة" في حياة معظم المصريين، بجانب السعي المحموم للقمة العيش، والاستهلاك التافه لتسالي العصر الحديث. فإذا ظل الدين هو المجال الوحيد الذي نحترم فيه إنسانيتنا، فستظل "حياتنا الواحدة" هي مجرد خطاب إعلامي لا حقيقة فيه.

هذه إشكالية واحدة... وتبقَّى إثنتان: موروث القهر، والتخلف السياسي... ولهذا الحديث بقية.